تشهد الساحة السورية اليوم متغيرات سريعة، وربما مفاجئة، بعد ركود مسيرتها لسنوات منذ 2018، فيما وكأنه يشبه إعادة إحياء الأمل والروح التي خبت وكادت أن تنطفئ. إذ يعود الشارع الشعبي للتحرك مجدداً في مختلف حنايا الجغرافيا السورية، وذلك ضمن إمكانات كل منها. إذ تشهد الساحة السورية سلسلة من البيانات والتصريحات لحركات مدنية في الساحل السوري رغم الخطورة الكبرى التي يمكن أن يتعرض لها أبناؤها هناك، ترافقها مجموعة من المحاولات في ريف دمشق الشرقي، وتبدلات في المشهد السوري في الحسكة وربما في عموم شرق الفرات وشمال غربي سوريا قريباً، ومظاهرات في قرى درعا تواجه بإطلاق النار، وتحرك شعبي واسع في السويداء تمثل بمظاهرات يومية منذ يوم الخميس 17 آب لليوم، مع التحرك لتحقيق عصيان مدني واسع، شمل معظم قرى وبلدات المحافظة. فهل ستثمر هذه التحركات الشعبية عن استعادة روح الثورة التي تستهدف التغيير السياسي في بنية السلطة السورية عامة واستعادة مشروع بناء الدولة السورية لكل السوريين من دون محاصصة فوقية أو علوية لفريق خلاف غيره، سياسياً كان أو دينياً؟ أم سيتكرر المشهد مرة أخرى بسيل من الانكسارات والخيبات ما لم نتعلم من دروس الماضي؟
منذ العام 2011، ورغم الزخم الشعبي الذي رافق متغيراتها الكبرى، لم يتمكن السوريون من الإجماع على ميثاق وطني يكون قادراً على أن يشكل بوصلة عمل تجمع الجهود السورية المتنوعة: السياسية والفكرية والاجتماعية والأهلية والدينية والمدنية. فرغم سيل الشعارات التي تناوبت في حمل مسيرة سوريا وثورتها متعددة المنعطفات، فإن الاختلاط المرافق لهذه المسيرة بين الوصول إلى السلطة بشكل منفرد كسلطة بديلة عن سلطة البعث العسكري الاستبدادي القائم، وبين بناء الدولة، أو استردادها من حكم العسكر، كان بادياً وواضحاً طوال مسيرة السنوات السابقة. لدرجة كان يمكن القول خلف توماس هوبز، ملهم ومؤسس العقد الاجتماعي الإنكليزي إبَّان ثورتها الكبرى قبل قرون، أنه لن يقنع الناس بضرورة وأهمية الاستقرار والأمان، كأرضية للدولة، ما لم يصطدموا بالواقع ويتحسسوا ضروراته وآليات علاج مطباته.
الثورة السورية، وبحسب دراسات متعددة ونشريات سابقة، مرت بمنعطفات عدة:
-الحراك الشعبي السلمي المدني الواسع بمظاهرات متوالية من 2011 لما يقارب نهايات الـ 2012 بتواتر أسبوعي عامّ، بلغ اليومي في مناطق سورية عدة، وبزخم شعبي تجاوز معظم الأرقام والقياسات الكمية التي رصدت تاريخ ثورات الشعوب السابقة.
-تداخل بين العسكرة والسلمية تأرجح بين منطقة وأخرى إلى أن تحولت سوريا لساحة معارك حربية واسعة. لم تتأخر لأنها بدأت تُحسم لصالح الفصائل الإسلامية العسكرية مقابل سلطة النظام.
-منذ منتصف الـ 2013 لغاية 2015، تكشفت الصراعات العسكرية بوضوح عن صراع إقليمي متعدد المحاور يجري على الساحة السورية، مميزُه كان صراعاً ميليشياوياً بين الفصائل الشيعية المدعومة من إيران مقابل الفصائل الإسلامية المدعومة من تركيا ودول الخليج. مترافقة مع تنامي قوى التطرف الإرهابي في الحالين أكل غالبية بقايا الثورة السورية وحوَّلها لبحر دم وكارثة كبرى.
-بعد الـ 2015 ومع تدخل روسيا-بوتين، بجانب الميليشيات الإيرانية وسلطة النظام، تحولت سوريا لعقدة دولية للصراع الدولي متمثلاً بالجيوبوليتيك الروسي القبيح، ومحاولة كسر مفاعيل القرارات الدولية التي تقرّ بضرورة التغيير السوري العام سواء عبر جنيف1/2012 أو ما تلاه في قرار مجلس الأمن 2254/2015 لصالح مشروعها السياسي المتمثل بمخرجات سوتشي بحل دستوري يفصل على مقاسها ومقاس السلطة القائمة. ولليوم لم تتمكن من ذلك رغم أنها وبعد 2018 تمكنت من حسم المعارك العسكرية في الداخل السوري وإخلاء وتقريع المدن السورية من سكانها وتدمير معظمها.
مسار هذه المتغيرات معزز بالشواهد والأرقام، وإن اختلفت أدوات تقييمه بين طريقة أو نموذج سياسي وآخر، لكن ثمة نقاط علّام واضحة فيه:
- رغم المدّ الشعبي الواسع السلمي الأول، لم يتفق السوريين على ميثاق عمل وطني عامّ، بقدر تباينهم وخلافهم السياسي بين صيغ أيديولوجية لأحزاب المعارضة الكلاسيكية، وصيغ مركبة وذات أجندات نفعية محضة. وكل طرف فيها يفترض أنه الأصحّ في رؤيته، وصاحب الأحقية المطلقة في قيادة الثورة والوصول للسلطة. ولك أن تعدّ سيل القوى السياسية المتشكلة طوال السنوات السابقة والتي قلما تختلف في بياناتها ولكنها قلما تلتقي في تنسيقها أو توافقها العام.
- تعدد المشاريع العسكرية وتبعيتها للأجندات الخارجية، وليس فقط بل صراعها الدامي في بينها، رغم صراعها القائم مع السلطة. وليس فقط، بل تمحورها وارتكاسها لصناعة القادة ذوي "الصيت" الثوري الفضفاض، ما نسميه اليوم بقوى الأمر الواقع سواء في شمال غربي سوريا أو شمال شرقيها، حتى في غالبية الحارات السورية. حيث الشعار المطروح "أنا وفقط أنا"، في موقع يشابه تماماً الأيديولوجيات السياسية المتشكلة.
-وهم القيادة المفردة سواء السياسية أو العسكرية، طالت الحركة المدنية أيضاً، لدرجة أنك تقرأ سيلاً من البيانات اليومية تشير لهذا أو ذاك، من دون الفعل التشاركي والبناء على المشترك السوري العامّ.
من الشائن في هذا السياق إنكار الأدوار العديدة التي حاولتها الوطنية والوجدان السوري في تلافي ما يحدث، سواء لدى الأفراد أو العديد من الشخصيات السورية الوطنية أو المكونات والهيئات. لكن الصراع على السلطة كان العنوان الأبرز في كلّ مراحل الثورة السورية سياسياً وعسكرياً، وما نتج عنه وتداخل معه، إقليمياً ودولياً، والنتيجة كانت بقاء السلطة الحالية قائمة في مكانها وذلك عندما تصبح محصلة الصراع معها صفراً حين يختلف ويتشتت خصمها. الصراع على السلطة لليوم هو سبب رئيسي في استمرار الكارثة السورية.
اليوم، يمكن تجاوز أخطاء الماضي، بل يمكن تناسيها والبدء بمرحلة جديدة، إذ ما سعى السوريون لتحييد خلافاتهم الأيديولوجية والسياسية والدينية الطائفية، وتغليب محتوى مشروعهم الوطني العامّ بأهداف سورية وطنية عامة تُشكّل إجماعاً عامّاً. فسورية دولة لكل السوريين تشترط ميثاق عمل وطني يحاكي تجربة الاعتصام الستيني عام 1936 والذي نصَّ على نقاط ثلاث محددة: سوريا دولة مستقلة بلا احتلالات عسكرية، وتساوي السوريين جميعاً في الحقوق والواجبات أمام القانون، وثالثها الأكثر تميزاً، أن الأمة بمقدراتها المعنوية والمادية رهن لتحقيق هذه الأهداف. فهل يمكن للسوريين اليوم أن يستعيدوا تلك اللحظة المنيرة من تاريخ سوريا، مستبعدين خلافاتهم الإثنية الدينية والسياسية، وتلاعب الدول من خلالها بمصيرنا وتهديد هويتنا، والاستفادة من أخطاء الماضي والذهاب لفحوى هذا الميثاق مجدداً وبنكهة عصرية مفاتيحها متغيرات المرحلة الحالية؟
هل يمكن أن نخطوَ باتجاه ميثاق وطني سوري يستهدف التغيير السياسي السوري الذي يفضي إلى عقد اجتماعي ودستور عصري لسوريا الدولة، لا سوريا السلطة، لسوريا الحرية، لا سوريا الاستبداد وحكم فئة ما، لسوريا كدولة لكل السوريين، لسوريا دولة للحرية الفكرية السياسية والمساواة أمام القانون وحرية الإيمان، سوريا دولة للاستقرار والسلام في المنطقة؟